بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة : الحمد لله الذي رفع السماء بلا عمد ومد الأرض ،وجعل الجبال لها وتد .فهو الواحد الاحد الفرد الصمد القائل في كتابه { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) } .
وأصلي واسلم سيدنا محمد ، فهو خير مولود ولد ، دعى إلى وحدانية الله ولأ جلها جاهد ، وعلى اله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اما بعد : الإسلام هو الدين العام الخالد الذي ارتضاه الله للبشريه جميعا حيث قال الله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)} وقوله: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} .ولقد تعرض الإسلام لعداوات ظاهرة وباطلة من المشركين والوثنين و أضرابهم من اليهود والنصارى منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقتنا هذا ، وإلقاء الشبة التي وسوس بها شياطين الإنس والجن ، ولكن هذه العداوات لم تلبث بعد جهاد وكفاح مستمرين أن خبت جذوتها وانطفأت ذبالتها ، فذهب الشرك والمشركون ، وذهب الباطل والمبطلون ، وبقي الحق الظاهر المبين ، و صدق الله إذ قال:{ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} وقال: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } .
- وسأتناول إن شاء الله بعض الشبهات التي أثيرت حول النبي صلى الله عليه وسلم والرد عليها ، سائلين المولى عز وجل أن يسدد ويوفقنا لما يحبه ويرضاه .
شبة محاولة الرسول صلي الله علية وسلم الانتحار
اتهامه (صلى الله عليه وسلم) بمحاولة الانتحار في العهد المكي ، في فترة انقطاع الوحي وفتوره بعد اللقاء الأول بينه وبين جبريل عليه السلام .
روايات الحديث:
1- روى ابن سعد في الطبقات قال : " أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف عـن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما نزل عليه الوحي بحراء ، مكث أياما لا يرى جبريل عليه السلام ، فحزن حزناً شديداً ، حتى كان يغدو إلى ثبير مرة ، وإلى حراء مرةً ؛ يريد أن يلقي نفسه منه ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامداً لبعض تلك الجبال ، إلى أن سمع صوتاً من السماء ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم صعقاً للصوت ، ثم رفع رأسه: فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعاً عليه ، يقول : " يا محمد ، أنت رسول الله حقا ، وأنا جبريل " .
2- وروى الإمام الطبري في تاريخه 2 / 300 - 302 قال : " حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير ، قال : سمعت عبد الله بن الزبير ، وهو يقول ل عبيد بن عمير بن قتادة الليثي : حدِّثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة ؟ فذكر الحديث إلى قوله : ( حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها ، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج ، فيه كتاب ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما اقرأ ؟ فغتني ، حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ماذا أقرأ ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلى بمثل ما صنع بي ، قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } إلى قوله: { علم الإنسان ما لم يعلم } ( العلق : 1-5 ) ، قال : فقرأته ، قال : ثم انتهى ، ثم انصرف عني وهببت من نومي ، وكأنما كتب في قلبي كتابا . قال : ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إلى من شاعر أو مجنون ، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ، قال : قلت إن الأبعد يعني نفسه لشاعر أو مجنون ، لا تحدث بها عني قريش أبدا ! لأعمدنّ إلى حالقٍ من الجبل فلأطرحنّ نفسي منه أتقتلنها فلأستريح . قال : فخرجت أريد ذلك ، حتى إذا كنت في وسط من الجبل ، سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد ، أنت رسول الله ، وأنا جبريل ...).
3- وقد روى البخاري رحمه الله في فتح الباري برقم (6982) هذه القصة أيضا مدرجةً في حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ آخر ، قال : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ، وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر ، قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " ..ثم لم ينشب ورقة أن توفي ، وفتر الوحي فترةً حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزناً غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه ، تبدّى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقا . فيسكن لذلك جأشه ، وتقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل ، تبدّى له جبريل فقال له مثل ذلك. (
الشبه التي أثيرت حول الحديث: أن هذه الروايات المذكورة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حاول مرارا أن يلقي بنفسه من رؤوس الجبال ، وهو القائل:
(من تَرَدَّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدا..) فهي إذاً محاولة منه للانتحار ، وهذا لا يليق بشخصِ من هو في مقام النبوة ، ويستندون إلى الآية الكريمة (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6))
الرد على الشبهة :
لابد أن ننظر إلى صحة هذه الأحاديث التي استندوا إليها :-
1- ففي الحديث الاول الذي رواه بن عباس رضي الله عنه . (محمد بن عمر الواقدي) ، ومعلوم عند علماء الجرح والتعديل أن الواقدي متروك الحديث ، فقد قال الإمام البخاري عنه في كتاب الضعفاء : " متروك الحديث " ، وكذلك حكم عليه الحافظ ابن حجر في التهذيب وغيرهم ،ومن المعلوم أن وجود راوٍ متروك في حديث ، يجعله مردوداً غير قابل للتصحيح بالشواهد الأخرى .
2- أما رواية الإمام الطبري فهي مردودة سنداً ومتناً ؛ فإن المتن مخالف للنصوص الصحيحه ، حيث جعل الرؤيا الأولى لجبريل عليه السلام رؤيا منامية ، وهذا مخالف لبقية النصوص التي تُثبت أنها رؤية حقيقية ، ثم كان من جواب النبي صلى الله عليه وسلم : ( ماذا أقرأ ؟ ) ، وهذا لم يحصل ؛ فإن الثابت في صحيح البخاري وغيره أنه كان يقول : ( ما أنا بقاريء ) ، ولذكر ذهاب النبي صلى الله عليه وسلّم إلى خديجة و ورقة بن نوفل رضي الله عنهما ، وما ذُكر في الروايات الصحيحة أن الرؤية الثانية لجبريل عليه السلام كانت بعد فتور الوحي وانقطاعه .وأما السند ففيه (إرسال) فإن (عبيد بن عمير) ليس صحابيّاً ، إنما هو من كبار التابعين ، و( ابن حميد الرازي) كذّبه جماعة من العلماء فهو كذاب .
3- أما مارواه البخاري مردود سند لأنها :-
أولا:لأنه أوردها لا على أنها واقعة صحيحة ، ولكن أوردها تحت عنوان "البلاغات " يعنى أنه بلغه هذا الخبر مجرد بلاغ ، من (الزهري) ومعروف أن البلاغات فى مصطلح علماء الحديث: إنما هي مجرد أخبار وليست أحاديث صحيحة السند أو المتن .
ثانيا: بلاغ (الزهري) هذا حكمه الضعف سنداً ؛ لأنه أسقط من إسناده اثنان على الأقل ، وبلاغات الزهري ليست بشيء كما هو الحال في مرسلاته ، فقد قال يحيى القطان : ( مرسل الزهري شر من مرسل غيره ؛ لأنه حافظ..) .
أما الآية الكريمه (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)) ؛ لا تشير أبداً إلى معنى الانتحار ، ولكنها تعبير أدبى عن حزن النبى محمد صلى الله عليه وسلم بسبب صدود قومه عن الإسلام ، وإعراضهم عن الإيمان بالقرآن العظيم ؛ فتصور كيف كان اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى الله ، وحرصه الشديد على إخراج الكافرين من الظلمات إلى النور.
* ومع هذا كله ، وبفرض صحة هذه القصة جدلا ، فليس فيها ما يعيب شخص النبي صلى الله عليه وسلم أو يقدح في عصمته ، وإليكم بيان ذلك :-
1- أنه قد همّ-على فرض صحة الرواية-بأن يلقي بنفسه،والهمّ هنا لم ينتقل إلى مرحلة التنفيذ،وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله) متفق عليه.
2- إن تحريم قتل النفس لم يكن نازلا في شريعته صلى الله عليه وسلّم، إذ القصّة في بداية أمر الوحي، فكيف تكون تلك الحادثة مدخلاً للطعن فيه صلّى الله عليه وسلّم؟!.
* الدليل على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- من هذه القصه :
1- أن جبريل عليه السلام هو الذي شهد لرسول الله بالرساله (تبدّى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسول الله حقا . فيسكن لذلك جأشه) .
2- أن العصمة لاتكون إلا للأنبياء عليهم السلام ،وإن العصمة متحققة في هذه الحالة، ووجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى صرف عنه هذا السوء، كما صرف عنه قبل مبعثه حصول التعري، وشرب الخمر، والجلوس مع فتيان قريش، وغير ذلك مما هو مذكور في السيرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين