عقيدة أهل السنة والجماعة
في نعيم القبر وعذابه
إضافة جمادى الآخرة 1428 هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه، وبعد
إخوتاه..
لعمر الله، إن الجبين ليندى استحياء من الله مما نحن فيه في هذا الزمان، فها هم السفهاء يعتلون منابر التشكيك في قضايا الاعتقاد، وتنطق الرويبضة بمقالة السوء، وصاروا ينكرون ما تعارف عليه أهل الإيمان منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام..
فمرة ينكرون الشفاعة الثابتة بأحاديث متواترة قطعية الثبوت، وينالون من حجية السنة المطهرة ومن أصحاب الحديث، ويقولون: نأخذ بكتاب الله، أما السنة فمدارها على أخبار الآحاد الظنية، ولا سبيل للظن في مسائل الاعتقاد!!
والأمر على خلاف ذلك، بل "خبر الآحاد" يؤخذ به في العقيدة، فإن تنزلت معهم فقلت لهم:فماذا أنتم قائلون – مثلا – في عقيدة "الولاء والبراء" المنصوص عليها بآي القرآن، راحوا يقلبون الأبصار؛ فإما يعرضون وإما يؤولون ويلوون النصوص بالهوى، وإما يعطلون.
فالخَطْب ليس حجية قرآن أو سنة – عَلم الله – إنما هو الهوى، فكيف بربك تفسر أن يظل الواحد من هؤلاء يعصي الله آناء الله والنهار، لا تراه يصلي، تسأل فتراه مهموزا في خلقه وسلوكه، ثم يستيقظ من سكره ليكتب في إبطال عقائد الإسلام، وهو من جلدتنا، ويتكلم بلساننا، وتفتح له الصحف الصفراء أبوابها على المصراعين، لينال من دين الله؟ حقا، لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا.
وسبحان الله!
المسكين لا يدري ما الفرق بين الحديث والأثر، ولا يعرف معنى الإسناد، ولا يدري من رجاله.
جهل مطبق، وعناد بالباطل، وأحقاد على الدعاة وأهل العلم عجيبة، ونسأل الله المعافاة والنجاة.
وتجد آخرين ما تربوا في كنف العلماء، وعلمهم بالدين ضحل، ويأتي ليضعف لك أحاديث في البخاري، ويؤول لك النصوص وفق فهمه القاصر!!
وكأنه لا علم يدعى بـ "مصطلح الحديث" توزن به نصوص السنة, ولا علم يسمى بـ "أصول الفقه" يضبط فهم النصوص وتفسيرها, وكأنه لم ينقل لنا بالتواتر المعنوي – فضلا عن اللفظي, جيلا بعد جيل – عقيدة السلف الصالح. يقول السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 28, 29):
وكيف يقاس من نشأ في حجر العلم منذ كان في مهده, ودأب فيه غلاما وشابا, حتى وصل إلى قصده – بدخيل أقام سنوات في لهو ولعب, وقطع أوقاتا يحترف فيها أو يكتسب, ثم لاحت منه التفاتة إلى العلم, فنظر فيه وما احتكم, وقنع منه بتحلة القسم, ورضي بأن يقال: "عالم" وما اتسم.
آه من الأهواء وصنيعها في أرباب العقول البعيدة عن نور الوحي, تأخذ أحدهم الفكرة العابرة، ثم يلعب به هواه, فتختمر الفكرة الشيطانية في ذهنه, ثم يصبح يجمع لها أصحاب الهوى، ويكتب ويناطح, وهو أجهل من دابة.
أوتراه غير مؤمن أومصدق بعذاب القبر مثلا, ويحيل عقله المظلم أن يكون هذا من عقيدة الإسلام, فما يلبث أن ينكر كل ما عدا هواه.
فالنصوص يضرب بها عرض الحائط بالطعن في الثبوت ؛ فمرة يطعنون في أبي هريرة راوية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتارة يطعنون في كتب الحديث – التي تلقاها العلم منذ أكثر من اثني عشر قرنا – بالقبول – أو يردون تلك النصوص بالتأويل الفاسد أو بالتعطيل, كأن يتشدق بالنسخ بلا دلالة, إلى آخر تلك المهاترات الفارغة والمهارشات السفيهة.
فيا أخا الإسلام...
عليك بالعتيق, عليك بكتاب الله, وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم بإحسان, ودع عنك قول أهل الزور والباطل والبهتان, إنه دينك, فانظر عمن تأخذه, فهل ترضى أن تتعلم دينك على يد فساق أو مخرفين أو ضلال، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؟!
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيقرأ القرآن رجال لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"
قيل لأنس بن مالك: يا أبا حمزة, إن قوما يكذبون بعذاب القبر. قال: فلا تجالسوا أولئك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بين يدي الساعة سنون خداعة, يكذب فيها الصادق, ويصدق فيها الكاذب ويؤتمن فيها الخائن, ويخوّن فيها الأمين, وينطق فيها الرويبضة" قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: "السفيه يتكلم في أمر العامة".
الأدلة من القرآن الكريم على عذاب القبر ونعيمه
الأدلة في القرآن كثيرة ومنها:-
1- قوله تعالى: {وَلَوتَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}(الأنعام: 93)
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا خطاب لهم عند الموت، وقد أخبَرَت به الملائكة – وهم الصادقون –، ولو كانوا حينئذ في الدنيا لما صحّ أن يقال لهم: اليوم تجزون.
2- وقوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(غافر 45 – 46).
فذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره.
3- وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} (الطور: 45 – 46).
وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ, لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا.
وقد يقال – وهو أظهر -: إن من مات منهم عذب في البرزخ, ومن بقي منهم عذب في الدنيا بالقتل وغيره, فهو وعيد بعذابهم في الدنيا والبرزخ.
4 - قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} ]إبراهيم: 27 [.
في الصحيحين والسنن عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم إذا سئل في قبره شهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله" – وفي لفظ: "نزلت في عذاب القبر" يقال له من ربك؟ فيقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيّي محمد – وذلك قول الله تعالى -: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم: 27 ].
قال ابن عباس: المخاطبة في القبر يقول: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وفي الآخرة: مثل ذلك.
5- قال تعالى: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}] المؤمنون: 100 [.
فعذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه, وهو ما بين الدنيا والآخرة, وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة, وسمي عذاب القبر ونعيمه, لأنه روضة أو حفرة نار, باعتبار غالب الخلق, فالمصلوب, والحريق, والغريق, وأكيل السباع والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله, وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما.
الأدلة من السنة المطهرة على عذاب القبر ونعيمه
وهي - أيضا – كثيرة نذكر منها:
1- في"البخاري" عن عائشة رضي الله عنها, أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر, فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر. فقال: "نعم, عذاب القبر حق" قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر.
2- وفي "صحيح مسلم" عن عروة ين الزبير أن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة من اليهود وهي تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنما تفتن يهود". قالت عائشة: فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل شعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟" قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر.
3- عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس فسمع صوتا, فقال: "يهود تعذب في قبورها"
4- وفي "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير, أما أحدهما: فكان لا يستتر من بوله, وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة" ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين, ثم غرز في كل قبر واحدة. فقالوا: يا رسول الله, لم فعلت هذا؟ قال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا"
5- وفي "صحيح مسلم" عن زيد بن ثابت قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له – ونحن معه – إذ حادت به فكادت تلقيه, فإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة. فقال: "من يعرف هذه الأقبر؟" فقال رجل: أنا. قال: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها, فلولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه". ثم أقبل علينا بوجهه فقال: "تعوٌذوا بالله من عذاب النار" قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال "تعوٌذوا بالله من عذاب القبر" قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: "تعوّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن" قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال "تعوّذوا بالله من فتنة الدجال" قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال قال القرطبي – رحمه الله تعالى – وإنما حادت به البغلة لما سمعت من صوت المعذبين, وإنما لم يسمعه من يعقل من الجن والإنس, لقوله عليه الصلاة والسلام: "لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر"
فكتمه الله سبحانه عنا حتى نتدافن بحكمته الإلهية ولطائفه الربانية سبحانه جل جلاله الرحيم, لغلبة الخوف عند سماعه, فلا نقدر على القرب من القبر للدفن, أو يهلك الحي عند سماعه, إذ لا يطاق سماع شيء من عذاب الله في هذه الدار لضعف هذه القوى, ألا ترى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس؟ وأين صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد التي يسمعها كل من يليه؟
وقال صلى الله عليه وسلم – في الجنازة -: "إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم, فإن كانت صالحة قالت: قدموني, وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها, أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان, ولو سمع الإنسان لصعق".
قلت: هذا وهو على رؤوس الرجال من غير ضرب ولا هوان, فكيف إذا حل به الخزي والنكال، واشتد عليه العذاب والوبال؟
فنسأل الله معافاته, ومغفرته, وعفوه, ورحمته, ومنه, وهو الرحيم, وهو البر الكريم سبحانه جلا جلاله.
ومن الأدلة كذلك:
6- ما جاء في "صحيح مسلم" من حديث جابر بن عبد الله الطويل, أن النبي لما قضى حاجته، واستتر بظل شجرة قال: "يا جابر, هل رأيت مقامي؟" قلت: نعم يا رسول الله. قال: "فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا فأقبل بهما, حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك وغصنا عن يسارك"
قال جابر: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحسرته فانذلق لي, فأتيت الشجرتين, فقطعت من كل واحدة منهما غصنا, ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري, ثم لحقته فقلت: قد فعلت يا رسول الله, فعم ذاك؟ قال: "إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين".